أبو هريرة
ذاكرة عصر الوحي رضي الله عنه وأرضاه
قالوا عنه
" اللهم حبب عبيدك هذا إلى عبادك المؤمنين "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
" كان أبو هريرة يسبح في كل يوم اثنتي عشرة الف تسبيحة "
عكرمة رضي الله عنه
من أقواله
نشأت يتيما وهاجرت مسكينا وكنت اجيرا لبرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رحلي
فكنت اخدم إذا نزلوا واحدوا إذا ركبوا فزوجنيها الله عز وجل فالحمد لله الذي جعل
الدين قواما وجعل أبا هريرة إماما ما وجع أحب إلي من الحمى لانها تعطي كل مفصل
قسطه من الوجع وان الله تعالى يعطي كل مفصل قسطه من الاجر أما أنه ما ابكى على
دنياكم هذه ولكن ابكي على بعد سفري وقلة زادي وأني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار لا أدري أيهما يؤخذ بي .
لماذا كنى رضي الله عنه بأبي هريرة ؟
لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس ، ولما أسلم سماه الرسول صلى الله
عليه وسلم عبدالرحمن ..
ولقد كان عطوفا على الحيوان ، وكانت له هرة ، يطعمها ، ويحملها ، وينظفها ، ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..
وهكذا دعي : أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..
السيرة
صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..
وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..
والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..
فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..
كان رضي الله عنه يجيد فن الاصغاء ، وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان ..
يسمع فيعي ، فيحفظ ، ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر ، وتعاقبت الأيام..!!
من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا
لأحاديثه ، وبالتالي أكثرهم رواية لها.
فلما جاء عصر الوضاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، اتخذوا أبا هريرة رضي الله عنه غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة
في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤول.
لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.
هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد
المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه ، وأن يحملوه وزرها وأذاها.
والآن عندما نسمع واعظا ، أو محاضرا ، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة :
( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )
عندما نسمع هذا الاسم على هذه الصورة ، عندما تلقاه كثيرا ، وكثيرا جدا
في كتب الحديث ، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة ، نعلم أننا نلقى شخصية
من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء..
ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة ، والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قل أن يوجد لها نظير ..
إنه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة. فمن أجير الى سيد..
ومن تائه في الزحام ، الى عالم وإمام..
ومن ساجد أمام حجارة مركومة ، الى مؤمن بالله الواحد القهار ..
قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع وهو بخيبر ، فأسلم راغبا مشتاقا
ومنذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم ..
وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ
أسلم الى أن ذهب النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى.
أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.
إن أبطال الحرب في الصحابة كثيرون
والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون
ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتاب
فأدرك أبا هريرة رضي الله عنه بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام
الى من يحفظ تراثه وتعاليمه ، كان هناك يومئذ من الصحابة كتاب يكتبون
ولكنهم قليلون ، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث.
لم يكن أبا هريرة رضي الله عنه كاتبا ، ولكنه كان حافظا ، وكان يملك هذا الفراغ ،
أو هذا الفراغ المنشود ، فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها .
وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا ، عزم على أن يعوض ما فاته ، وذلك بأن
يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..
ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه ، وهي ذاكرته الرحبة
القوية ، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة ، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..
وهكذا راح يكرس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته..
فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى ، راح أبو هريرة يحدث ،
مما جعل بعض أصحابه يعجبون :
أنى له كل هذه الأحاديث ، ومتى سمعها ووعاها..
ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة ، وكانه يدفع عن
نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال :
( انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وتقولون : ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث ؟
ألا ان أصحابي من المهاجرين ، كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق ، وان أصحابي
من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم ..
واني كنت أميرا مسكينا ، أكثر مجالسة رسول الله ، فأحضر اذا غابوا ، وأحفظ اذا نسوا ..
وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال :
" من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني "
فبسطت ثوبي فحدثني ثم ضممته الي ، فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه ،
وأيم والله ، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا ، وهي :
(( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب *
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ))
هكذا يفسر أبو هريرة رضي الله عنه سر تفرده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره ..
وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية ، باركها الرسول فزادت قوة..
وهو ثالثا لا يحدث رغبة في أن يحدث ، بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية
دينه وحياته ، والا كان كاتما للخير والحق ، وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرطين
من أجل هذا راح يحدث ويحدث ، لا يصده عن الحديث صاد ، ولا يعتاقه عائق
حتى قال له عمر رضي الله عنه يوما وهو أمير المؤمنين :
( لتتركن الحديث عن رسول الله ، أو لألحقنك بأرض دوس )
أي أرض قومه وأهله..
على أن هذا النهي من أمير المؤمنين رضي الله عنه لا يشكل اتهاما لأبي هريرة ،
بل هو دعم لنظرية كان عمر رضي الله عنه يتبناها ويؤكدها ، تلك هي :
( أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا ، وألا يحفظوا شيئا سوى
القرآن حتى يقر وثبت في الأفئدة والعقول )
فالقرآن كتاب الله ، ودستور الاسلام ، وقاموس الدين ، وكثرة الحديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته صلى الله عليه
وسلم والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها ،
من أجل هذا كان عمر رضي الله عنه يقول :
( اشتغلوا بالقرآن ، فان القرآن كلام الله )
ويقولرضي الله عنه :
( أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به )
وحين أرسل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه الى العراق قال له :
( انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي القرآن كدوي النحل ، فدعهم على ما
هم عليه ، ولا تشغلهم بالحديث ، وأنا شريكك في ذلك )
كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..
اما الأحاديث فليس يضمن عمر رضي الله عنه أن تحرف أو تزور ، أو تأخذ سبيل
للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنيل من الاسلام..
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقدر وجهة نظر عمر رضي الله عنه ، ولكنه أيضا
كان واثقا من نفسه ومن أمانته ، وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد
أن كتمانه اثم وبوار.
وهكذا لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سمعه ووعاه الا حدث وقال..
أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة رضي الله عنه على الحفظ ،
فدعاه اليه وأجلسه معه ، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
في حين أجلس كاتبه وراء حجاب ، وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة رضي الله عنه ..
وبعد مرور عام ، دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى ، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي
كان كاتبه قد سطرها ، فما نسي أبو هريرة رضي الله عنه كلمة منها . وكان يقول عن نفسه :
( ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني ، الا ما كان من عبدالله بن
عمرو بن العاص ، فانه كان يكتب ، ولا أكتب )
وقال عنه الامام الشافعي أيضا :
( أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره )
وقال البخاري رضي الله عنه :
( روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود )
وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوابين ، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله ..
فيقوم هو ثلثه ، وتقوم زوجته ثلثه ، وتقوم ابنته ثلثله.
وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة رضي الله عنه عبادة وذكر وصلاة .
وفي سبيل أن يتفرغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة
الجوع ما لم يعاني مثله أحد..
وانه ليحدثنا كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشد على بطنه حجرا ويعتصر كبده
بيديه ، ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع ..
ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن
رقأ له بسببها جفن .. كانت هذه المشكلة أمه :
فانها يومئذ رفضت أن تسلم ..
ليس ذلك وحسب ، بل كانت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء ..
وذات يوم أسمعت أبا هريرة رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما يكره ، فانفض عنها باكيا محزونا ، وذهب الى مسجد الرسول صلى الله
عليه وسلم ويروي رضي الله عنه بقية النبأ :
( فجئت الى رسول الله وأنا أبكي ، فقلت :
يا رسول الله ، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي ، واني
دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرة الى الاسلام .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اللهم اهد أم أبي هريرة "
فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله ، فلما أتيت الباب اذا هو مجاف ،
أي مغلق ، وسمعت خضخضة ماء ، ونادتني يا أبا هريرة مكانك
ثم لبست درعها ، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول :
أشهد أن لا اله الا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..
فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح ، كما بكيت من الحزن ، وقلت :
( أبشر يا رسول الله ، فقد أجاب الله دعوتك.. قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام
ثم قلت يا رسول الله :
ادع الله أن يحببني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات ) فقال :
" اللهم حبب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة "
وعاش أبو هريرة رضي الله عنه عابدا ، ومجاهدا ، لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.
وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.
وعمر رضي الله عنه كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.
اذا ولى أحدهم وهو يملك ثوبين ، فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه
سوى ثوبيه .. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد ..
أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء ، فآنئذ لا يفلت من حساب
عمر رضي الله عنه ، مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا .
دنيا أخرى .. ملاءها عمر روعة واعجازا..
وحين ولي أبو هريرة رضي الله عنه البحرين ادخر مالا ، من مصادره الحلال ، وعلم
عمر رضي الله عنه فدعاه الى المدينة..
ولندع أبو هريرة رضي الله عنه يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع : ( قال لي عمر :
يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقت مال الله ؟
قلت :
ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه ، لكني عدو من عاداهما
ولا أنا من يسرق مال الله ..
قال :
فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف ؟
قلت :
خيل لي تناسلت ، وعطايا تلاحقت ..
قال عمر : فادفعها الى بيت مال المسلمين )
ودفع أبو هريرة رضي الله عنه المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء
وقال :
( اللهم اغفر لأمير المؤمنين )
وبعد حين دعا عمر أبا هريرةرضي الله عنهما ، وعرض عليه الولاية من جديد ،
فأباها واعتذر عنها..
قال له عمر رضي الله عنه : ولماذا ؟
قال أبو هريرةرضي الله عنه :
( حتى لا يشتم عرضي ، ويؤخذ مالي ، ويضرب ظهري )
ثم قال :
( وأخاف أن أقضي بغير علم وأقول بغير حلم )
وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..
وبينما كان عوادده يدعون له بالشفاء من مرضه ، كان هو يلح على الله
قائلا :
( اللهم اني أحب لقاءك، فأحب لقائي )
وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة
وبين ساكني البقيع الأبرار يتبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..
وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته ، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث
التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.